دلالات الصورة في المسرح البصري
(رؤيا تطبيقية)
الفن هو
أحد أشكال الوعي الاجتماعي. والمسرح بسماته التركيبية فنيا بالذات يتطور
ويكتسب تكامله وسط الاستقرار والهدوء الاقتصادي والسياسي وديناميكية
المجتمع، إلا أن تاريخ الإخراج أ كد على تنوع وتطور التيارات الإخراجية
باختلاف الفترات الزمنية والأزمات البشرية منذ المسرح الإغريقي القديم الذي
مارس المخرج فيه دور مدرب للكورس، وتعليم الرقص وإتقان واندريه انطوان
وغيرهم إلى استخدام الطبيعية والواقعية في كل شيء سواء في الأداء أو
الإخراج اوالسينوغرافيا مع تأكيد دور المخرج في توحيد الوسائل الفنية من
خلال وحدة العرض وواقعيته وارتباط المسرح بمشكلات العصر.
إلقاء
الشعر من أجل أن يحقق تأثير الترنيمة في نفوس المشاهدين، وحتى تغيير مهمته
بعد قرون عديدة حيث تعامل المخرج مع الحوار والأدوار كنوتات وغناء اوبرالي
كما في المدرسة الكلاسيكية الفرنسية. ومن ثم دعوة غوته وساكس مننجن
ومع
نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين امتلك الإخراج المسرحي
أهميته كفن مستقل، حتى بات يطلق على المخرج، بكونه الخالق والمبدع لقوانين
العرض المسرحي،وبهذا فانه فرض وجوده على كل العناصر الفنية الأخرى التي
تدخل ضمن العملية الإبداعية للعرض، بما فيها النص أيضا، وبعد ذلك تحول
المخرج إلى دراماتورج عندما بدا يكتب نصه في فضاء العرض باستخدام الوسائل
الإخراجية البصرية .
وكان للعقل الإبداعي لجوردن كريج Gordan Graig
تأثيره في اعتبار المسرح وحدة متماسكة ومتداخلة لجميع الفنون المستخدمة في
الإنتاج المسرحي لكنه في ألان ذاته يمتلك لغته التعبيرية
الخاصة
التي تهدف الى إعادة ترتيب الواقع من جديد ومن وجهة نظر مسرحية وفنية تحتم
الابتعاد عن نقله فوتوغرافيا. ومن ثم التطور الذي حصل بعد ذلك من خلال
التجارب التي دعت الى إعادة خلق الفضاء المسرحي حتى يصبح مكتظا بالرموز
والإشارات التشكيلية كما في تجارب راينهاردت و آدولف آبيا Adolphe Appia
وغيرهم.
لكن ستانسلافسكي اكتشف طريقته في خلق العرض المسرحي الواقعي
الشعبي، وتعتبر تعاليمه المعروفة في التمثيل والإخراج المبنية على جذوة
العاطفة لخلق الهارمونيا في سمفونية الروح الإنسانية، من أهم
المناهج الواقعية في التمثيل والإخراج حتى ألان. وتميزت المدرسة الروسية بوضوح تعاليمها عندما
حاول
تلامذة ستانسلافسكي وخاصة تايروف واخلبكوف وفاختانكوف الذين عملوا على
تجديد منهجه وتطويره لخلق العرض الشعبي. لكن مايرهولد وفكره المسرحي
الديناميكي يعتبر من التيارات أو المناهج التي لم تقتصر على تطوير منهج
ستانسلافسكي فحسب بل خلقت حيوية للعرض ومازالت تمتلك تأثيرها حتى في الوقت
الحاضر.
إن اكتشافات مايرهولد الإخراجية ومنهجه في عمل الممثل
وعلاقتة بالشخصية و معظم أفكاره حول التركيبية / الإنشائية CONSTRUCTIVISM
أو البيوميكانيكا، تصب في مفاهيم السميولوجيا المعاصرة وأهميتها الفنية
والفكرية في المسرح. حيث عمل ميرهولد على اكتشاف معاني ودلالات جديدة
للواقع من خلال علاقة الممثل بالمكان كسينوغرافيا وزمان وفضاء العرض بحيث
تتحول أفعاله الى دلالات وإشارات ورموز . ولهذا أتهم بالتجريدية والافكار
المعادية والخيانة وقتل بشكل بشع في منفاه.
إلا إن مسرح ما بعد
الحربين العالميتين أكد حالة من الفوضى المنظمة أي الفوضى البنائية التي
تؤدي الى إعادة حيوية وتاثير الوعي الفردي والاجتماعي الجديد. فكان للعقل
البر يختي المؤدلج والمشاكس دورا كبيرا في تأكيد الأيديولوجيا في المسرح.
ولكن اتجاهات فكرية أخرى أكدت على النقيض أي إبراز
الخواء الروحي
والقلق المضاعف للإنسان الخارج للتو من تحت أنقاض الحرب مع الإشارة إلى
استلاب هذاالكائن في عالم غير حر أساسا، والتأكيد على عزلته ، وقصور لغة
التفاهم بينه والعالم المحيط. فارتبط المسرح بفلسفات كالوجودية و مركزية
الذات.
ولهذا فان مؤلفي ومنظري ومخرجي المسرح الملحمي البر يختي
والمسرح الطليعي (أو مايسمى خطأ اللامعقول أو مسرح العبث ) وبعدها التجارب
والتيارات المسرحية الأخرى تميزت بالوعي الشمولي لمعالجة أي ظاهرة حتى وان
كانت محلية لتأكيد شمولية مشكلة الإنسان. وساعد هذا على إمكانية المسرح
وقدرته في أسلبة العصر، من خلال التأكيد على جوهر المشكلات الأساسية التي
تميزه .
وبرز تأثير الفكر الإخراجي لارفين بيسكاتور بشكل كبير ايضا
في خلق المسرح السياسي لذا فان برخت اعتبر جميع تجارب واكتشافات بيسكاتور
الفنية هي جزء من مسرحه الملحمي الذي من خلاله خلق الجدل في المسرح وملحمية
الإخراج.
و يعتبر برخت أهم المنظرين والمخرجين المسرحيين الذين
أثروا في المسرح العالمي من خلال تغييره العلاقة بين الجمهور والممثل
باستخدام أهم وسيلة فنية وفلسفية عملية ( اعني التغريب ) لتخليص المسرح من
الوهم وتقريبه للجمهور بهدف معالجة مشاكله الفكرية والسياسية والاجتماعية .
وقد أثر هذا في المسرح العربي، حيث عمل الفنان العربي الذي اكتشف نفسه في
مسرح برخت على تكييف مفاهيمه للمسرح العربي من خلال ربط تكنبك المسرح
الملحمي والتغريب والجدلية البرختية مع جماليات الثقافة العربية وتنوع
الأشكال التراثية المسرحية بغية تأسيس العرض المسرحي الشعبي واهم المؤلفين
الذين عملوا بهذا الاتجاه هو سعدالله ونوس والفريد فرج .
ومن رؤيا
مسرحية مناقضة أ ثر آنتونين آرتو ومفهومه حول مسرح القسوة والاخراج المسرحي
الميتافيزيقي المعاصر في تشكيل صورة العرض في المسرح العالمي، حيث حاول
آرتو اكتشاف لغة جديدة للمسرح بحيث ( تكون قوة سحرية تستحضر ماوراء مملكة
المنطق والكلمات او ان توحي به ) وبمعنى آخر ان المسرحية كنص يجب ان تكون
منظورة بقدر ماهي مسموعة ولذلك فانه ربط بين الميتافيزيقا والحلم والاخراج
لان المسرح بالنسبة الى آرتو (هو الذي يجعلنا نحلم ونحن مستيقظون، ويكف ان
يكون مسرحا اذا تخلى عن هذه المهمة ).
وحاول أيضا ان يخلق مسرحا
ميتافيزيقيا يستبدل فيه الكلام المنطوق بلغة جسدية بصرية محسوسة لانه كان
يؤمن بان المسرح لا يؤثر على السمع فقط وانما على الحواس الاخرى. ان حلم
آرتو في خلق مسرح مرئي بوسائل بصرية يتحول فيه العرض الى طقس او شعيرة
ويرتبط بالاحلام والرؤئ التنبؤية أثر في كتاب ومخرجي المسرح المعاصر، ودفع
بالكثير من الفنانين لتحقيق نظريته او حلمه الابداعي مثل غروتوفسكي وبيتر
بروك وجوزيف شاينا وغيرهم والذين نظروا نظرة تصوف الى المسرح.
دلالات الجسد المتوهج في المسرح البصري:
يعتبر
التعامل مع الجسد وتحولات الاشياء الذي بدأ في بداية القرن الماضي، كمفردة
بصرية ديناميكية لخلق الصورة المعبرة في فضاء الطقس ، إسلوب عمل فني
معاصر، حيث سعت الكثير من التجارب المسرحية على تحقيق الجانب البصري في
أداء الممثل او الرؤيا الاخراجية او سينوغرافيا الفضاء المسرحي .
ومن
هنا جاءت أهمية التجريب في الرؤى الاخراجية واكتشاف لغة ووسائل المخرج
الخاصة التي لا تعتمد على الادب فقط وانما على الجانب البصري من خلال
الاستغلال الابداعي لإمكانيات جميع الفنون، بالرغم من ان لغة المسرح في
الفضاء تبقى هي اللغة البصرية الابداعية الخاصة المتميزة بدينامكيتها
الحركية والصورية .
وتؤكد الكثير من الدراسات والعروض والتيارات
والتجارب المسرحية الاوربية على تحقيق هذا الجانب البصري كلغة جديدة في
الاخراج المسرحي ، بدءا من تجارب جوردن كريج و راينهاردت، ومايرهولد وادلف
آبيا ومخرجي مسرح الطليعة الفرنسيين وانتهاءا بتجارب بيتر بروك وجوزيف
شاينا وروبرت ولسن وليباج وكانتور وبينا باوش ويوجين باربا واريان منوشكين
والياباني تاداشي سوزوكي وكل مايرتبط بتجارب مسرح الصورة الاوربي،
ويمكن
ملاحظة المبادئ الاساسية التي يقوم عليها مسرح الصورة الاوربي بما فيها
تجارب مسرح الدول الاسكندنافية والذي بدأ في فترة الستينات ومازالت الكثير
من هذه التجارب تكتشف الامكانيات الجديدة في اللغة المسرحية للوصول الى
اساليب عمل غير مكررة. حيث يمكن وبسهولة تأشير بعض المسارح التي مازالت
تقدم تجاربها المسرحية المتميزة والمبنية على الطاقة التعبيرية للجسد
والصورة في الفضاء الابداعي، بالرغم من اختلاف اتجاهاتهم والتسميات التي
يطلقونها على تجاربهم المسرحية، كمسرح Oden Theatre ومخرجه يوجين باربا،
ومسرح KANTABLA 2 و مخرجه Nullo Facchini ومسرح
Kom de Bagfraومخرجه Beter Halmgo . ومسرح Hotel Pro Formaوالمخرجة Kresten Dolholm . ومسرح Ten Box ومخرجه Kim Eden .
ولكن Billedstofteater (مسرح الصورة الدنماركي ) عموما الذي تأسس عام 1976 من قبل
Per
Flink Base و Kresten Dolholm (بالرغم من وجود تجاربه قبل هذا التاريخ في
الدنمارك وفي أوربا ) لعب دورا أساسيا في تثبيت الكثير من اسس مسرح الصورة
في الدول الاسكندنافية.
ويكتب Morten Skriver عن عروض هذا المسرح
بانها مهدت الطريق انذاك امام مسرح جديد يمثل روح المستقبل في الدنمارك
لانها عالجت الاشياء بوعي جديد وحفزتنا على رؤيتها من وجهة نظر جديدة
ومغايرة . وهذا يعني ان مسرح الصورة عموما يحاول اكتشاف الواقع من جديد
وبصيغ فنية جديدة.بالرغم من ان كل شئ واقعي بدأ من النص ورموزه المستخدمة
التي يعاد اكتشافها بطقوسية لتشكل العرض المسرحي.
( والمبدأ الاساسي
الذي يقوم عليه مسرح الصورة هو وضع عدة عناصر واشكال مختلفة اساسا بصورة
متعاقبة او دمج ¨دلالاتها او تناقضها لانتاج معنى جديد . وتتميز حركة هذه
العناصر والاشكال بايقاعها البطئ ، مما يجعل هذه العروض تحفر في الذاكرة)
ويستخدم
مسرح الصورة الاوربي اماكن العروض التقليدية لكنه يحولها الى اماكن عرض
غير تقليدية من خلال التوسع واطلاق ذاكرة المكان وايقاع الاشياء والكتل في
المكان والفضاء والبعد الفلسفي الماورائي لحركة الجسد، و يعمد الى استخدام
فضاء المدينة ويكيفه للعرض . ولغة مسرح الصورة التعبيرية تمتلك خصوصيتها
وغرابتها، ويعتبر الجسد والاشياء في الفضاء مفردات مهمة لانتاج معنى واعطاء
بعدا سميولوجيا ودلاليا جديدا. وتتميز حركة الاجساد والاشياء بالعنف
تحقيقا لمقولة أنتونين آرتو ( كل ما يتحرك عنيف ) وبالرغم من ان الممثل
يبدو وكأنه يرقص مذبوحا إلا ان للعنف هنا مفهومه اللآخر، بمعنى ان مكونات
الصورة وحركة الممثلين البطيئة، والاشياء الاخرى في الفضاء تتحقق بشكل تكشف
من خلاله عنفها غير الطبيعي. ومثل هذا الاستخدام لمكونات الفضاء يوحي
بقدرتها على التفاعل. لذا فان عروض هذا المسرح تبدو وكأنها عودة ( بالمسرح
الى الطقوس الدينية والاسرار الغامضة للحياة ).
التكرار المنهجي في مسرح الصورة :
إن
Beldestofteater ( مسرح الصورة ) يعتمد دائما على التوزيع التشكيلي البصري
في بناء الصور ة التعبيرية الحية مما يؤدي الى خلق صور حركية وبصرية
متتالية، اضافة الى استخدام التشكيل السينغرافي في الديكور ذا الدلالة
التعبيرية ، لكنه في ذات الوقت يعبر عن شمولية الفكرة. وكذلك استخدام فضاء
المكان اللامسرحي ، كالمتحف، المسبح، الشارع، المكتبات العامة، قاعات
المعارض التشكيلية مع تغيرها بغية ملاءمتها من خلال الإضافات السينغرافية،
سواء كان ذلك في الديكور او في الصورة التعبيرية بحيث تتناسب مع طبيعة
العرض المسرحي مما يمنحه معنى إضافي غرائبي جديد.
ففي عرض
TOHUNDREDE تم جزء من الحدث في البحر حيث قام الممثلون بمسيرة طقوسية
يصاحبهم الجمهور وهو جزء من سيناريو العرض . وبسعادة لا مثيل لها دخلوا
جميعا بكامل ملابسهم في البحر وكأنهم قوم وسحرة قدموا من كوكب آخر ليتطهروا
في مياه بحار عالمنا .
ويعتمد مسرح الصورة الدنماركي على تصميم
الملابس والادوات والاكسسوارات التي توحي بالغرابة والبساطة، وكذلك استخدام
الامتعة والحقائب والعربات وغيرها بطريقة تمنحها بعدا ومعنى جديدين بعد ان
تتغير وظائفها الواقعية. وكذلك الاعتماد على الممثلين غير المحترفين
للوصول الى العفوية في الحركة والصورة، وابرازهم وكأن كل واحد منهم كيان
وعالم متوحد مع ذاته. ان التكرار المتتالي يشكل منهج العاملين في مسرح
الصورة من مخرجين وممثلين وكتاب، حيث تتكرر الفكرة او الحركة او الصورة من
زوايا واشكال مختلفة بمنهجية مقصودة، بغية خلق نوع من التركيز على هذه
الزوايا التي يريد المخرج تأكيدها مما يمنح العرض تلك الغرابة والبعد
الفلسفي العبثي أحيانا.
الصورة البصرية وحلم الإنسان الأبدي
إن
الآفاق الفكرية لمسرح الصورة تطمح في أن تغترف من ثقافات اخرى مازالت توحي
بالحكمة والفلسفة والغنى الروحي. ومن هذا المنطلق يعتبر هذا المسرح مسكون
بذاكرة وطقوس هذه الشعوب وخاصة الشرقية منها للوصول إلى معادل فكري ومشهدي ـ
بصري ـ في تركيب الحدث أو الصورة، ومن ثم إغنائها بالضوء التعبيري الخاص
واللون والرائحة والحركة الديناميكية وغيرها من الوسائل الضرورية التي تؤدي
الى تكامل المشهد، والتعامل معها كونها وسائل مستقلة لها تكاملها.
ويمكن
اعتبار عروض مسرح الصورة Beldestofteater الدنماركي اوالاوربي بشكل عام،
أحلام شفافة لها علاقة بالحب والأمل و ديناميكية الفكرة الغنية بزخم الحياة
والفرح والمستقبل.وكذلك التأكيد على الجانب الآخر من الحلم وأعني كابوسية
الآماني ومجمل أحلام الإنسان الأخرى التي تتشظى أمام قسوة وزيف الواقع. لذا
فان أكثر المشاهد والصور التعبيرية ذات طابع كابوسي غريب ومثير للتعبير عن
كابوسيه الحياة.
ولكن الشيء الجوهري هو إبراز البعد الميتافيزيقي
واللامرئي في حلم الانسان الابدي.غير ان الموت في عروض مثل هذا المسرح
يرفرف دائما كطائر أسطوري فوق رؤؤس الممثلين والجمهور ومكونات المشهد، ومن
الممكن ان ينقض في أية لحظة ليمارس وجوده العبثي.
ومن خلال عناوين
المسرحيات والسيناريوهات والصور البصرية ، يمكن للمرء ان يستنتج بانها عروض
رؤيوية تعالج الواقع بديناميكيته غير المرئية، فتدلل على المنهج الفكري
والفني والفلسفي لمبدعيها …مثل :
مسرحية هذا اليوم، سبعة ، دخل
الغرباء المدينة، الموكب الأزرق، اغنية التحول، نسيت ان اتحدث، لعب،
TOHUNDREDE ، و ME, MY SELF , YOU and I ، يرقصون لوحدهم. البحر، صورة
الثلج الابيض. اورفيوس. وغيرها من العناوين المركبة من كلمات متناقضة
المعاني.
إفناء ذات الممثل في اللانهاية
عند تحليلنا لمسرحية هذا اليوم وهي احد تجارب مسرح Kom de Bagfra للمخرج
Halmgo
Beter يمكن ان نكتشف الهاجس الوجودي الحقيقي الذي يقلق الفنان في علاقته
بالاشياء المحيطة التي تكون وجودها المكثف، وكذلك علاقته بالعالم. وسنلاحظ
ايضا بان هؤلاء الفنانين يحاولون اكتشاف العالم من جديد أمامنا، فيندهشون
لتك الاشياء الطبيعية والواقعية والحياتية التي تعودنا عليها ولم تعد
تدهشنا . ولكن العرض ورؤية التناول هي التي تساعدنا على ان نراها من جديد
عند ذلك فقط تثير هذه الاشياء الغرابة لدينا. وهنا يمتزج الواقع بالحلم
والكابوس، فيدخلنا جو العرض( الذي نحن بصدد تناوله الان ) منذ البداية في
متاهة الحياة التي تمتلك زمنها وقانونها الابداعي، وخاصة عندما تشكل
الانارة الخابية موجودات الفضاء امامنا بضبابية ولا يمكن ان نتبينها إلا
بصعوبة، تصاحبها تلك الموسيقى التي توحي بضرب عنيف لمطارق حديدية ، وبهذا
فانها تمتلك وجودها ليس السمعي فحسب. او انها تتحول الى موسيقى حية من خلال
ضرب درع حديدي كبير يشغل منتصف خلفية المسرح.
ومع الصفائح الحديدية
التي يحملها الممثلون ، وهم يتحركون بعشوائية، تترآى تكوينات حركية وكتل
تشغل فضاء المسرح الذي يقطعه الضوء المنعكس من الصفائح . ومن خلال الإيقاع
الموسيقي والحركي المتسارع يبدأ الممثلون بضرب الأرض بتلك الصفائح أو
يستخدمونها كأجنحة للطيران، ويدورون بدون هدف ليشكلوا معركة حقيقية.أنها
معركة الصراع البشرى أللا مجدي و الفلتان في لحظات غياب العقل.
وكل
هذا يوحي بانه جلد للذات وغضب عارم يصدر من هذه الشخصيات الغريبة التي
تتسارع لحمل آلات بلاستيكية تشبه ( خرطوم الماء ) يستخدمونها كالأسلحة
للتعبير بسخرية هائلة عن تنوع اشكال الدمار في عالمنا. وبعد هذا الضجيج
يصمت كل شئ فجأة حينما يتحرر الممثلون من كل ما يحملونه بما فيه الصفائح
الحديدية التي يرمونها كالقاذورات في فتحات تشبه القبور المصنوعة من
الصفائح فيغيب الممثلون في ظلامها أيضا.
وعندما تنكشف الرؤيا من
جديد نرى في الجانب الآخر أشكال بلاستيكية معلقة توحي وكأنها حيوانات
هلامية تشبه خلايا النحل تهتز ببط في فضاء العرض ، لكن الممثلون ينسابون
منها وكأنهم يولدون بعسر.
وعندما يتنفسوا الحياة، يسقطوا مباشرة في
جحيم فضائنا أو ينغمسوا بطين عالمنا اللزج ( وقد أوحى لي هذا المشهد بالجو
العام لعروض المخرج البولوني جوزيف شاينا. انظر مسرح جوزيف شاينا لكاتب
السطور. الحياة المسرحية السورية 1985).
إن هذه المخلوقات اللزجة
التي تشبه الدعاميص ، تتحرك كلأ شنات المائية بايقاع موسيقي ضاج، لكنها
لاتعرف بل ل تود او لا تستطيع ان تخرج من لزوجتها او عالمها الطيني اذا جاز
التعبير، وأحيانا تتماهى مع الايقاع الحركي لطيور السماء او الحيوانات
الخرافية بدون هدف او سبب يؤدي الى معنى. لكن اصرار الانسان على ان يتخلى
عن ميزاته البشرية ليتحول الى طائر او حيوان فان هذا يدخل في باب الاندهاش
او المفارقة الساخرة .
وفي القسم الثاني من العرض نرى في الظلام
رايات من القماش الابيض تخفق في الفضاء المضطرب، كأنها اشرعة يسحبها
الممثلون على ايقاع الموسيقى العنيف المنبعث من ضرب الصنوج او أللآلات
الصوتية الاخرى، تضيئها إنارة تبرق خاطفا توحي بعالم جحيمي ملون، فيخلق كل
هذا انطباع بعاصفة تهز الجمهور وتقلقه من الاعماق وتدفعه الى التفكير
بمصيره. ان هذا الجو الضاج بالحركة والانارة والرايات الشفافة، وكثافة
الضوء والظل المختلط مع الالوان الاخرى، والموسيقى التي نسمعها وكأنها آهة
الروح الاخيرة.. تعطينا انطباعاً بغرابة العالم الذي تترآى فيه هذه
المخلوقات المتلفلفة بتخبطها المصيري وهي تصّوت بحشرجاتها المتشنجة وكأنها
شياطين قدرية تلاحق الجمهور. فتخلق ضجيجا حركيا في الفضاء إلا أنه في ذات
الوقت يشكل ضجيج الحياة التي يعيشها جمهور العرض .
ومما يزيد هذه
الصورة غرابة هو انبثاق انسان أحدب طويل غريب وجامد القسمات يسير ببطء
فيثير الضجر. يتجه نحو زاوية من المسرح وقف فيها شاب وحيد مرتبك النظرات
أحيانا، او يبدو وكأنه ينتظر قدر ما في أحيان اخرى وسط الموسيقى التي تضرب
رؤوس المتفرجين كأنها اللعنة. وفجأة تهطل سماء المسرح مطرا حقيقيا يمزق
ملابس الشاب الورقية، مما يؤكد على سهولة تعرية الذات الهشة عندما تعيش في
عالم غير متماسك.. ان هذه الصورة أكدت على الفكر الاخراجي غير المتوقع في
مسرح الصورة .
وعندما ينعكس ظل الاحدب في الخلفية يبدأ شئ يشبه
المخاض، ليخرج انسان عاري من حدبته. وقد بدا لي وكأنه يهوذا النادم . او
كأنه شيطان انبثق من العدم او العالم الاسفل ملتاث غاضب يهتز بعنف فوق
اكتاف الاحدب. ويزداد ايقاع جنونه فينتزع أمعاءه التي تتكون من الحبال
والخيوط وقطع القماش الملون حتى يُفرغ معدة الاحدب . ( ان هذا هو التشابه
الثاني مع عرض دانتي للمخرج جوزيف شاينا ).
ومن جانب آخر تتوالى
الأفكار والدلالات والتأويل والصور الإخراجية التي تشكلها الحركات
الميكانيكية للمخلوقات الثلاث التي خرجت للتو من خلاياها البلاستيكية ،
فنراها تتحرك أمام الشاب الذي مازال ينتظر مفكرا و مشدوها.ولكن ملابسه
مازالت تتمزق تحت المطر. وعندما تدخل هذه المخلوقات أكياسا من النايلون..
تخرج ببط من فضاء المسرح وهي في حالة من الاندهاش والخوف من شئ غير متوقع.
أما
يهوذا الملتاث الهائج فيتعلق بحبل قد تدلى من أعلى المسرح، ويصعد به قمة
الحائط العالي الذي غطي الخلفية متصارعا مع ذاته او قدره حتى يختفي في هوة
هناك في الأعلى محاولا تمزيق جسده، يعذبه الضوء الجحيمي الاحمر ليحترق
بنوره وذاته تتشوف الى الفناء فنسمع صخب موسيقى اللانهاية.
ان طموح
الفكر الاخراجي والقيمة الفلسفية لعروض مسرح Kom De Bagfra والمخرج Halmgo
Beter ( وكذلك مجمل عروض مسرح الصورة الدنماركي ) هو معالجة مشكلة الانسان
في الواقع
اليومي، وسأمه من روتينية الحياة. ولكن المعالجة الفنية
والغنى الروحي والفكري للفنان المبدع، يمنح الواقع بعدا ميتافيزيقيا عندما
يأخذ مداه في العرض المسرحي. وبتأثير ثقافة الستينات الوجودية ، وطغيان
المفهوم الفلسفي العبثي، فان الكثير من العروض انذاك أكدت على عبثية الحياة
وآلية الانسان والبعد الميكانيكي في الحياتي واليومي، مرورا بابراز تشئ
الانسان وشموليته للجوانب الانسانية بما فيها الحب كعاطفة انسانية نبيلة
إلا انها تحولت الى ( شئ ) مبتذل في مجتمع آلي.
ويمكن تأشير مميزات
الاسلوب الفني لعمل المخرج Halmgo Peter من خلال اعتماده على الصورة
التعبيرية الغريبة والمثيرة في ذات الوقت من اجل الوصول الى جوهر فكرة
العرض الذي يقدمه ، واعطاء الجوانب التكنيكية كألانارة والموسيقى والديكور
أبعادا تعبيرية فلسفية حد استقلالها في خلق التأويل والدلالة. ومن جانب آخر
يتم الاعتماد على التباين CONTRAST في استخدام الضوء واللون الفاقع
والموسيقى وحركة الممثل التي تتداخل مع حركة المادة والاشياء التي تمتلك
وجودها وتكاملها في فضاء العرض، فتصبح هذه الحوامل التعبيرية هي الخالقة
للدلالات والرموز والاحالات والتأويل وتشكل الجوهر الاساسي للعرض المسرحي، و
من خلال التأكيد على ديناميكيتها التعبيرية لا يكون الجمهور غريبا على
العرض بل تشحنه ومن ثم تورطه وتحفزه على التفاعل.
كل هذا شكل الرؤى والثيمات الاساسية لمسرح الصورة بشكل عام والافكار الاخراجية للمخرج الدنماركي Halmgo Peter ومعالجاته المفضلة.
والتيار
المسرحي الآخر هو مسرح ما بعد الحداثة الأوربي والذي يشكل تجربة مهمة في
المسرح البصري أو المسرح المرئي وقد أورد فاضل الجاف ( في إحدى مقالاته في
صحيفة القدس العربي ) بعض مميزات هذا المسرح ((عن كتاب جاكلين مورتين
Modren Theatre The Vois in )) والذي يشترك مع مسرح الصورة في الكثير من
أساسيات العرض المسرحي منها :
طغيان الشكل على المضمون والقيام
بتجزئة النص والابتعاد عن تسلسل الأحداث، بمعنى عدم اعتماد السببية
والنتيجة في التحليل. أما الزمان والمكان فهما دائما غير محددين ولهما سلطة
الأحلام، والعرض المسرحي يكون متعدد الأصوات . إضافة إلى التزام عدم
الاتصال المباشر بين ما يحدث في الفضاء على خشبة المسرح والجمهور. أو بين
الشخصيات ذاتها، لهذا السبب فأنها تبدو مشلولة الفعل، وكأن كل واحد منها
منغمر بعالمه الخاص الذي يشكل جوهر وجوده. وتلعب المؤثرات البصرية دوراً
أساسيا ، إضافة إلى أن الشرطية والاختزال تميز الحركة والصورة في العرض.
ويعتبر مسرح ما بعد الحداثة مسرحا للأسطورة والطقس والحلم والصورة الغريبة
اكثر من كونه مسرحا سوسيولوجيا .
أما في المسرح العربي فبالرغم من
وجود بعض التجارب المسرحية المتأثرة بمسرح الصورة والتي تحاول ان تنحى منحا
بصريا، الا ان بعضها متأثر بشكل مباشر بالمسرح الاوربي، بحيث تتحول الكثير
منةها الى حركات رياضية او ثرثرات راقصة . لذا يحتاج مسرح الصورة العربي
إلى أن يكتشف أساليبه التعبيرية الخاصة به من جديد حتى لا تكون التجارب
العربية تقليدا فوتغرافيا أوربيا. وهذا يحتم أن يكتشف النص البصري العربي و
ان تكون تجاربه نابعة من هكذا نص بصري ومن تلك الرؤى الاخراجية التي تفرض
الزمن الإبداعي الميتافيزيقي وتتعامل مع ديناميكية الواقع بعيدا عن وجوده
الساكن الذي يفرضه الزمن الواقعي، وانما ضرورة النظر هذا الواقع من خلال
الطاقة التعبيرية الفنية أي وجوده في ديناميكية الزمن الإبداعي
الميتافيزيقي وهذا الزمن بالذات هو الذي يشكل شمولية ذات الفنان الواعية
والمبدعة لخلق صورة العرض المسرحي.
إضافة إلى أن التراث والملاحم
والأساطير العربية والشرقية بالرغم من كونها تراث حكائي و سردي للكلمة فيه
المكانة الاولى إلا انه أيضا تراث للصورة البصرية المعبرة بشرط الاعتماد
على الجسد وقدرته التعبيرية والتصويرية وهذا و يمكن ان يشكل الرؤى الجوهرية
لمسرح الصورة العربي. لذا فان المخرج في الطقس البصري يتعامل مع الممثل
كجسد له قدرات وذاكرة مثيولوجية وتاريخية تعبيرية تنتج لغة بصرية للتواصل
مع الجمهور. وجسد الممثل في علاقته بمكونات الفضاء الإبداعي يعتبر احد
المصادر الحقيقية للخلق المسرحي في الرؤيا البصرية المسرحية. لذلك فان
تجارب فاضل الجعايبي ومحمد ادريس والمنصف السويسي وعز الدين كنون وحاتم
دربال ومعظم تجارب المخرجين التونسيين، وبعض تجارب المسرح العربي لسهام
ناصر وانتصار عبد الفتاح ود. صلاح القصب وغيرهم تعد تجارب لها علاقة مباشرة
بمسرح الصورة البصري.